مصادر الحكمة في العصر العباسي
مصادر الحكمة في العصر العباسي ما هي وما هي أسباب ظهور شعر الحكمة وخصائص الشعر في العصر العباسي من خلال مقالنا سنتعرف على ذلك مصادر الحكمة في العصر العباسي.
محتويات الموضوع
مصادر الحكمة في العصر العباسي
كانت الحِكم عند العرب تُمثّل الفطرة السليمة، فهي موجودة منذ العصور الأولى، لكنّها تطوّرت إلى معانٍ عميقة؛ فكان لشعرِ الحكمة قيمته بين الشعراء، فبه يصبح المدح أكثر رزانة، وتربية القوم على السلوك المهذب والفضيلة، وبذلك كان الشعر من أحد أسباب إصلاح النفس، من خلال صنع مادة شعريَّة وتعليميَّة وأخلاقيَّة، ومن أهم أسباب تطور شعر الحكمة في العصر العباسي، هي المصادر التي ساعدت في الانفتاح الثقافي والعقلي، ومنها:
- الموروث الشعبي
وهو ما يَرثه الأفراد من الأسلاف؛ إذ يُعدّ الجزء الأهمّ من تاريخ وثقافة الشعوب، ويشمل هذا الموروث العادات والتقاليد، والأفعال والأقوال، بما في ذلك الحكايات والأساطير، وغيرها من التجارب الذاتيّة المُتوارثة التي كانت من أحد أسباب تطوُّر الشعر الحكمي في العصر العباسيّ، فالموروث الشعبي هو الفن الذي يساعد على صياغة الحياة وفنونها، وهذه المعتقدات الشعبيَّة كلّها تدلّ على ثراء الشعوب وزخامة فِكرهم، ومدى إبداعهم في الحياة والحضارة، وتبعًا لذلك فقد تسلسلت أفكار الشعر العباسيّ بما هو عقلاني ومنطقي، إضافة إلى تنوّع الموضوعات بمختلف الأغراض، كالفخر، والغزل العذري، والهجاء، والتصوف، وغيرها، كما اتّسمت هذه المواضيع بابتكار معانٍ جديدة، وصور محدّثة. - التأثيرات الأجنبية:
وهي اتّصال الثقافة العربيّة بالثقافة الأجنبيّة، ويعدّ هذا الاتّصال من أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ازدهار الحركة العلميّة والأدبيّة في هذا العصر، ومن أهمّ هذه التأثيرات هُم الفرس، فقد كان لهم دورهم البارز في إيصال أنواع الثقافات الأخرى إلى العرب، فاقتبسَ العرب منهم، واندمجوا ثقافيًّا، وكانت هذه الاقتباسات هي أعمال مترجمة لأهم أدباء الغرب، إذ حفَّزت الكُتاب العرب على الكتابة الإبداعية والروائيَّة، إضافة إلى تحفزيهم على التمكُّن من جوانب هذه الكتابة والإلمام بعناصرها المختلفة، من أجل صنع ما هو أكثر إبداعًا من غيره.
أسباب ظهور شعر الحكمة
- ضعف أثر حياة البداوة، والتأثر الكبير في الحضارة الفارسية القديمة، والسير على نهجها وكان هذا العامل ظاهرًا في العراق، فنشأ عن ذلك تلاشي سلطة العرب؛ وتمتُّع شباب الجيل الجديد بكل ما كان لا يتمتع فيه شباب الجيل العربي في العهد الماضي، فتساوى الغالب والمغلوب في كل شيء، فأدى إلى تلاشي سلطة الدين، بسبب حداثة القوم، ولتأثير ديانتهم القديمة الموروثة عليهم.
- تطور العلوم بشكل كبير وواضح، مما أدى إلى ضرورة انتهاج منهج علمي في التفكير كي يساعد الباحثين عن الحقائق إلى الاهتداء لها بواسطة العقل؛ لذلك فهم بحاجة إلى الحكمة، فتطورت وازدهرت.
- تشعب العلوم الدينية وتطورها مما أدى إلى ضرورة وجود حكماء، يفصلون في المسائل الدينية، ويوظفون العقل أداةً لحسم المسائل الدينية، والعقائدية.
- انتشار الحكمة الفارسية والهندية، التي تتسم بالتصوف والزهد.
- التوسع الكبير في حركة الترجمة، والنقل عن الثقافات الأخرى مثل الفارسية، واليونانية، وغيرها من الحضارات، فاطَّلع العرب على مؤلفات أفلاطون وأرسطو، وغيرهم من فلاسفة، وحكماء اليونان الذين كان لهم الأثر البالغ في الحكمة العربية في العصر العباسي.
خصائص شعر الحكمة في العصر العباسي
إن شعر الحكمة في العصر العباسي يتميز بمجاله الفكري في وجود النزعة إلى التجديد حيث أنه قد وُجد مبدأ التخير أي تخير الأحسن من الحضارات حيث أنه كان لهذا المبدأ آثار إيجابية كثيرة على العقل العربي، فقد كان لشعر الحكمة في العصر العباسي خصائص منها :
- تفتح العقل العربي على ثقافة الحضارات المجاورة له مثل الحضارات الفارسية والرومية والهندية.
- قام على إيجاد التمازج بين الثقافات العربية وثقافة الحضارات الأعجمية.
- إن هذا المبدأ عمل على ازدهار الحياة الأدبية حيث أنه تميز بوجود أدباء كانوا قد تميزوا بالأصالة والإبداع والتجديد في الشعر وايضاً النثر، وتم ذلك بسبب صلة الأدباء بالمنطق والفلسفة.
- إن هذه الصلة التي تم ذكرها مؤخراً أدت إلى امتزاج العقل بالعاطفة في العديد من الآثار الأدبية للعصر العباسي سواء كانت نثراً أو شعراً.
- عمل على تزايد القصائد الشعرية التي تخللها الكثير من الحكم والمواعظ أو هناك بعض القصائد كانت تطرح بعض القضايا الفلسفية.
- أصبح الشعراء في هذا العصر يخضعون شعرهم للعقل أو الفلسفة أو حتى المنطق.
- فتح باب الأخلاق الحميدة وعمل على تصويرها مثل الكرم والحياء والعفة وأيضاً الصبر.
- عبر عن تجربة الشاعر بالإضافة إلى خبرته في الحياة وتم ذلك عن طريق التنوع في استخدام المحسنات اللفظية والبديعية.
- قام على إتاحة مواضيع تضمنت في طياتها مادة طريفة لتأديب الأجيال، حيث أنه هذه المواضيع حثت على الأخلاق الفاضلة.
- إن الشاعر في الشعر الحكمي اعتمد على تواجد المقدمة الطلليَّة، حيث أنه يعرض من خلالها خبراته في الحياة ويستطرد في ذكر حنينه لماضيه.
- من خصائص الشعر الحكمي أنه صور الطبيعة وعناصرها، بالإضافة إلى أنه وصف الصحراء والقصور في المقدمات الطللية التي تضمنت الشعر أو النثر.
- الشعر الحكمي في العصر العباسي يخلو من التكلف والألفاظ الصعبة، والسبب يكمن في أن هذا الشعر يكون غرضه واضح لهذا يجب أن يتميز بألفاظ سهلة حتى يتم فهم الغرض وعدم وجود الالتباس فيه.
أهم شعراء الحكمة في العصر العباسي
من المعلوم أن شعراء الحكمة في العصر العباسي كثيرون، وحكماؤه لا يحصون، ومبدعوه لا تبلى نضارتهم وحسنهم، ومنهم
- صالح بن عبد القدوس
يكاد يذهب شعر ابن عبد القدوس كله في تقرير محاسن الأخلاق والشيم ناظرًا فيها نظرة تجريدية، وهي نظرة دفعته إلى تعقب حكمة العرب والعجم وكأنه رصد نفسه لنظم الشعر في الفضائل وتجارب الأفراد والأمم
وأشهر قصيدة له في الحكمة قصيدته الزينبية:
احذرْ مُصاحبةَ اللئيمِ فإنَّه
يلقاكَ يحْلِفُ أنَّهُ بكَ واثقٌ
يعطيكَ من طَرَفِ اللسانِ حَلاوةً
واخترْ قرينَكَ واصطَفِيهِ تفَاخُرًا
واحفَظْ لسانَكَ واحترِسْ من لفْظِهِ
والسِّرَّ فاكتُمْهُ ولا تنطقْ بهِ يعدي كَمَا يعدي الصحيحَ الأجْرَبُ
وإذا توارى عنْكَ فَهْوَ العَقربُ
ويروغُ مِنكَ كَمَا يَروغُ الثَّعلبُ
إنَّ القَرينَ إلى المقَارَنِ يُنْسَبُ
فالمَرءُ يسْلَمُ باللِّسَانِ ويَعْطَبُ
إنَّ الزُّجاجَةَ كسْرُهَا لا يُشعَبُ - المتنبي
ومن أروع أبياته في الحكمة:
منَ الحِلمِ أنْ تَسْتَعمِلَ الجَهْلَ دُونَهُ
وأَنْ ترِدَ المَاءَ الذي شَطْرُهُ دَمٌ
ومَنْ عَرَفَ الأيَّامَ مَعرِفَتي بِهَا
فَليسَ بمرحومٍ إذا ظَفِروا بِهِ إذا اتَّسَعتْ في الحِلْمِ طُرْقُ المَظالِمِ
فتسقَى إِذا لَمْ يسْقَ مَنْ لَم يزَاحِمِ
وبالنَّاسِ رَوَّى رُمْحَهُ غَيرَ نَادِمِ
ولا فِي الرّدَى الجَاري عَلَيهِمْ بِآثِمِ - أبو تمام
من شعره الذي يحمل معاني في الحكمة:
إذا جَاريتَ في خُلُقٍ دنيئًا
رأيتُ الحّرَّ يَجتَنِبُ المَخازِي
ومَا مِنْ شِدَّةٍ إِلا سَيَأتي
لقد جرَّبتُ هَذا الدَّهْرَ حَتَّى
إذا مَا رَأسُ أهْلِ البَيتِ وَلَى
يَعيشُ المرءُ مَا استَحْيا بِخَيرٍ
فلا وَاللهِ مَا في العَيشِ خَيرٌ
إذَا لمْ تَخْشَ عَاقِبةَ اللَّيالِي فأنْتَ ومَنْ تُجارِيهِ سَوَاءُ
ويَحمِيه عَنِ الغَدرِ الوَفاءُ
لهَا من بَعْدِ شِدَّتِها رَخَاءُ
أفادتني التجاربُ والعَنَاءُ
بدا لهُمُ مِنَ النَّاسِ الجَفَاءُ
ويَبْقَى العُودُ ما بَقِيَ اللّحَاءُ
ولا الدُّنيا إذَا ذَهَبَ الحَياءُ
ولمْ تَسْتَحْي فافْعَلْ مَا تَشَاءُ
كيف تطور شعر الحكمة في العصر العباسي
عُرفت الحكمة في أشعار الشّعراء الجاهليّين، إلّا أنّها توسّعت كثيرًا في العصر العباسي، ومن شعراء الحكمة في هذا العصر: أبو تمام وبشّار بن برد وصالح عبد القدّوس، وقد أثّرت حركة التّرجمة الواسعة في شعر الحكمة، فيُلاحَظ أنّ شعراء بني العبّاس استوعبوا حكم اليونان والفرس وحكم كليلة ودمنة الهنديّة التي ترجمت للفارسيّة ثمّ نقلها ابن المقفّع إلى العربيّة فتمثّلوا كلّ ذلك شعرًا، وضمّنوا بعضه أبياتهم، وما كادوا يقعون على كتابيّ الأدب الكبير والأدب الصّغير اللّذين نقل فيهما ابن المقفع تجارب الفرس وحكمهم ووصاياهم في الصّداقة والمشورة وآداب السّلوك حتّى أخذوا يفردون المقطّعات في تصويرها شعرًا، يقول بشار بن برد في إحدى مدائحه:
إذا بلغَ الرأيُ المشورةَ فاستعـن
برأيِ نــصيحٍ أو نصيحةِ حازمِ
ولا تجعلِ الشّورى عليك غضاضةً
مكانُ الخوافي نافعٌ للقـــوادمِ
ويقال: إنّه كان في ديوان صالح
بن عبد القدوس ألف مثل للعجمِ
ولقد كانت حِكَمُ العصور الأدبيّة السّابقة تبدو منثورة في قصيدة المديح أوالهجاء أوالرّثاء أو حتّى الغزل، لتلخّص تلك التّجربة في حكمة أو اثنتين خلال القصيدة، فزهير بن أبي سلمى ضمَّن معلقته شذرات من تجربته تخدم غرض القصيدة، وتميّز شعر الحكمة العبّاسي بإفراد قصائد أو مقطوعات كاملة للحكمة، ينتقل الشّاعر فيها من عرش الشّاعر العفويّ إلى كرسي الناظم المعلم، يجمع فيها كل ما وافق وزنُه وثمُنَ معناه، من ذلك قصيدة (ذات الأمثال) لأبي العتاهية التي جمع فيها كثيرًا من الأمثال البليغة، إذ تبلغ نحو أربعة آلاف مَثَل، ومن الشّعراء الذين كانت لهم في الحكمة قصائد كاملة صالح بن عبد القدوس، يقول:
المَرءُ يَجمَعُ وَالزّمـــــانُ يُفـــرِّقُ
وَيَظــــلُّ يــَرقّعُ وَالخُطُوبُ تُمَزِّقُ
وَلأن يُعــــــادي عاقِـــــلاً خَيرٌ لَهُ
مِن أَن يَكــــونَ لَــهُ صَديقٌ أَحمَقُ
مِن أَن يَكــــونَ لَــهُ صَديقٌ أَحمَقُ
إنّ الصّديقَ عَلى الصّديقِ مُصدَّقُ
وَزِنِ الكَــــلامَ إذا نَطَقتَ فَإِنَـــــّما
يُبْدي عُيوبَ ذَوي العُقُولِ الْمَنْطِقُ